إسهامات في تاريخ التسامح الإنساني
لقد شَهِدتْ الحضارات القديمة إرهاصات ومُحاولات خاصة بتعزيز قيمة التّسامح، مِثل الحضارة اليونانيّة مع المُفكِّر أفلاطون وسُقراط، في القبول بالرّأي الآخر في إطار البحث عن الحقيقة. كما أن الأديان السّماوية ورِسالات الأنبياء والمُرسلين عليهم السَّلام قد تقاسَمتْ إسهاماتها في ترسيخِ قيم التّسامح على مَدى التاريخ الإنساني، لأن الدين عامّة في حدِّ ذاته يَدعو إلى الحُبِّ والعفو والتَّرابط والوِئام بين كافة البشر.
والعرب قديماً اتَّسمت بالتسامح كما يظهر في أمثالهم وأشِعارِهِم، فدأَبَ شُعراء ما قبلَ الإسلام على تعزيز مَفهوم الوفاء والتّسامح، والدّعوة إلى السِّلم في مَدائِحهم دون النَّظر إلى اختلاف أديانهم، ولعلَّ أبرز هؤلاء داعية السّلام زُهير بن أبي سلمى. كما أقامَ العرب «حِلف الفضول» كَرَمز إنساني للدفاع عن الحق ونُصرة الإنسان قبل بعثة النبي، وأقر هذا الميثاق عليه الصلاة والسلام بعد الإسلام، مادام يَحُضُّ على العدل والتكاتف الاجتماعي ونَبذ الظلم.
وجاءت رِسالة الإسلام مِن خلال الوحي مِن أجلِ الإنسان، وتعايُشه مع أخيه الإنسان، ووحدة المجتمع وتماسكه بإزالة الخِلافات بين البشر، وذلك باحترام ثقافة وعقيدة الآخرين، وتُمثّل السّيرة النبويّة الشريفة الجانب العَملي لِقيمة التَّسامح كصَحيفة المدينة المُنوَّرة التي مَثَّلت أوّل دستور في العهد النّبوي، يُنظّم العيش المُشترك، ويُجسِّد المُواطنة الفعلية بين أقوام مِن مُختلف الديانات والأعراق.
وشارَك المُفكِّرون والعُلماء المُسلِمون في إثراءِ المَنتوج العِلمي والفِكري عنِ التَّسامح، فكَتبوا ونَظَّروا فيه مِن ضِمنهم على سبيل المثال الماوَردي حيث تناول التَّسامح مِن جانِبِه الأخلاقي فربَط فضيلة التسامح بالمُروءة.
أمَّا في القرن السّادِس عشر وما بَعده، فقد أدرَكتْ أوروبا أنَّ التَّسامح فضيلة إنسانيّة، وكان الفضل في ذلك لبعض المُفكرين مثل: (فولتير، مونتِسكيو، جون لوك وغيرهم)، وكانت لِمؤلّفاتِهم آثاراً قويّة في نَشر دعوى التَّسامح، خاصة مع فيلسوف التسامح "فولتير" الذي يدعو المَسيحيين إلى أنْ يَجعلوا مِن جميع النّاس إخوة رغم اختلافِ عقائدِهم.
ومِن الإسهامات المُعاصرة الدّاعِمة للتسامح الإنساني كغاية عالمية تَحظر ممارسات التمييز العِرقي ما تَنُصُّ عليها الدّساتير والمواثيق الدوليّة، كنَص إعلان المبادئ الذي اعتمدته اليونسكو في عام 1995، والذي يدعو للتسامح العالمي، واعتبار يوم 16 نوفمبر يوماً عالمياً للتسامح، بِنصِّه القائل: «التّسامح يَعني الاحترام والقبول والتَّقدير للتنوّع الثّري لِثقافات عالِمنا، ولأشكالِ التَّعبير وللصِّفات الإنسانيّة لَدينا..».
لاريب أن التّسامح قد أضحى ضرورة إلى أقصى الحُدود في المُجتمعات مُتعدِّدة الثقافات والأديان والأعراق.